فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا منْ قَبْلكَ رُسُلًا إلَى قَوْمهمْ فَجَاءُوهُمْ بالْبَيّنَات فَانْتَقَمْنَا منَ الَّذينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمنين} هذه تسلية له صلّى الله عليه وسلم بمن قبله على وجه يتضمن الوعد له، والوعيد لمن عصاه.
قال الزمخشري: في قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمنين} تعظيم للمؤمنين، ورفع من شأنهم، وتأهيل لكرامة سنية، وإظهار لفضل سابقة ومزية، حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم، مستوجبين عليه أن يظهرهم ويظفرهم.
{اللَّهُ الَّذي يُرْسلُ الرّيَاحَ فَتُثيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ في السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء} إما سائرًا وواقفًا، مطبقًا وغير مطبق، من جانب دون جانب، إلى غير ذلك: {وَيَجْعَلُهُ كسَفًا} أي: قطعًا تارة أخرى: {فَتَرَى الْوَدْقَ} أي: المطر: {يَخْرُجُ منْ خلَاله فَإذَا أَصَابَ به مَن يَشَاء منْ عبَاده إذَا هُمْ يَسْتَبْشرُونَ وَإن كَانُوا من قَبْل أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهم} أي: المطر: {مّن قَبْله لَمُبْلسينَ} أي: لآيسين. قال الزمخشري: من قبله، من باب التكرير والتوكيد، كقوله تعالى: {فَكَانَ عَاقبَتَهُمَا أَنَّهُمَا في النَّار خَالدَيْن فيهَا} [الحشر: 17]، ومعنى التوكيد فيه، الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد، فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك. انتهى.
وعكسه ابن عطية رحمه الله فقال: إنه يدل على سرعة تقلب القلوب البشرية، من الإبلاس إلى الاستبشار.
قال الشهاب: وما ذكره ابن عطية أقرب؛ لأن المتبادر من القبلية الاتصال، وتأكيده دال على شدة اتصاله: {فَانظُرْ إلَى آثَار رَحْمَت اللَّه} أي: أثر الغيث من النبات والأشجار والحبوب والثمار: {كَيْفَ يُحْيي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتهَا إنَّ ذَلكَ} أي: العظيم الشأن الذي ذكر بعض شؤونه: {لَمُحْيي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَديرٌ}.
{وَلَئنْ أَرْسَلْنَا ريحًا} على الزرع: {فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا} أي: من تاثيرها فيه: {لَّظَلُّوا من بَعْده يَكْفُرُونَ} أي: من بعد اصفراره يجحدون ماتقدم إليهم من النعم، أو يقنطون ولا يصبرون على بلائه، وفيه من ذمهم، وعدم تدبرهم، وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم، وسوء رأيهم- ما لا يخفى.
ثم أشار تعالى إلى أن من أنكر قدرته على إحياء الزرع بعد اصفراره، وقد رأى قدرته على إحياء الأرض بعد موتها، فهو ميت لا يمكن إسماعه خبر إحياء الموتى، بقوله سبحانه: {فَإنَّكَ لَا تُسْمعُ الْمَوْتَى} أي: لما أن هؤلاء مثلهم، لانسداد مشاعرهم عن الحق: {وَلَا تُسْمعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إذَا وَلَّوْا مُدْبرينَ} قال أبو السعود: تقييد الحكم بما ذكر، لبيان كمال سوء حال الكفرة، والتنبيه على أنهم جامعون لخصلتي السوء، نبوّ أسماعهم عن الحق، وإعراضهم عن الإصغاء إليه، ولو كان فيهم إحداهما، لكفاهم ذلك، فكيف وقد جمعوهما؟: {وَمَا أَنتَ بهَادي الْعُمْي عَن ضَلَالَتهمْ إن تُسْمعُ} أي: ما تسمع: {إلَّا مَن يُؤْمنُ بآيَاتنَا فَهُم مُّسْلمُونَ} أي: منقادون لما تأمرهم به من الحق.
تنبيه:
قال ابن كثير: وقد استدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه الآية: {فَإنَّكَ لَا تُسْمعُ الْمَوْتَى} على توهيم عبد الله بن عُمَر في رواية مخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر، بعد ثلاثة أيام، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم، حتى قال له عمر: يا رسول الله! ما تخاطب من قوم قد جيّفوا؟ فقال: «والذي نفسي بيده! ما أنتم بأسمع لما أقول، منهم، ولكن لا يجيبون». وتأولته عائشة على أنه قال: إنهم الآن يعلمون أن ما كنتُ أقول لهم حق.
وقال قتادة: أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته، تقريعًا وتوبيخًا ونقمةً.
ثم قال ابن كثير: والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عُمَر، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححًا له عن ابن عباس مرفوعًا: «ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم، كان يعرفه في الدنيا، فيسلّم عليه إلا ردّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام». انتهى.
وقال ابن الهمام: أكثر مشايخنا على أن الميت لا يسمع استدلالًا بهذه الآية ونحوها، ولذا لم يقولوا: بتلقين القبر، وقالوا: لو حلف لا يكلم فلانًا، فكلمه ميتًا لا يحنث. وأورد عليهم قوله صلّى الله عليه وسلم في أهل القليب «ما أنتم بأسمع منهم» وأجيب تارة بأنه روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكرته، وأخرى بأنه من خصوصياته صلّى الله عليه وسلم معجزة له، أو أنه تمثيل، كما روي عن علي كرم الله وجهه، وأورد عليه ما في مسلم من أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا. إلا أن يخص بأول الوضع في القبر، مقدمة للسؤال، جمعًا بينه وبين ما في القرآن. نقله الشهاب.
{اللَّهُ الَّذي خَلَقَكُم مّن ضَعْفٍ} قرئ بفتح الضاد وضمها؛ أي: من أصل ضعيف هو النطفة: {ثُمَّ جَعَلَ من بَعْد ضَعْفٍ} يعني حال الطفولة والنشء: {قُوَّةً} يعني حال البلوغ والشبيبة إلى الاكتهال وبلوغ الأشد: {ثُمَّ جَعَلَ من بَعْد قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} أي: بالشيخوخة والهرم: {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} أي: من الأشياء، ومنها هذه الأطوار التي يتقلب بها الْإنْسَان: {وَهُوَ الْعَليمُ الْقَديرُ} أي: الواسع العلم والقدرة، كيف؟ وهذا الترديد في الأحوال المختلفة والتغيير من صفة إلى صفة، أظهر دليل على علم الصانع سبحانه وقدرته، المستتبع انفراده بالألوهية: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسمُ الْمُجْرمُونَ مَا لَبثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} أي: في الدنيا أو القبور، وإنما يقدرون وقت لبثهم بذلك على وجه استقصارهم له، أو ينسون أو يكذبون أو يخمنون: {كَذَلكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} أي: مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق والتحقيق في الدنيا، وهكذا كانوا يبتون أمرهم على خلاف الحق. كذا في الكشاف.
وقال ابن كثير: يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان، وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضًا، فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا، ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم، وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم. انتهى.
وقال الشهاب: المراد من قوله: {كَذَلكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} تشابه حاليهم في الكذب، وعدم الرجوع إلى مقتضى العلم؛ لأن مدار أمرهم على الجهل والباطل، والغرض من سوق الآية، وصف المجرمين بالتمادي في الباطل، والكذب الذي أَلفُوه. انتهى.
وقيل: كان قسمهم استقلالًا لأجل الدنيا، لما عاينوا الآخرة، تأسفًا على ما أضاعوا في الدنيا.
{وَقَالَ الَّذينَ أُوتُوا الْعلْمَ وَالْإيمَانَ} ردا لما حلفوا عليه، وإطلاعًا لهم على الحقيقة: {لَقَدْ لَبثْتُمْ في كتَاب اللَّه} أي: فيما كتبه الله وأوجبه بحكمته: {إلَى يَوْم الْبَعْث فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْث وَلَكنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أي أنه حق، لتفريطكم في طلب الحق واتباعه: {فَيَوْمَئذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذينَ ظَلَمُوا} أي: بالشرك، أو إنكار الربوبية، أو الرسالة، أو شيء لا يجب الإيمان به: {مَعْذرَتُهُمْ} أي: بأنهم كفروا عن جهل؛ لأنه إنما كان عن تقصيرهم في إزالته، أو عن عناد: {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي: ولا يطلب منهم الإعتاب؛ أي: إزالة العتب بالتوبة والطاعة؛ لأنهما- وإن كانتا ماحيتين للكفر والمعاصي- فإنما كان لهما ذلك في مدة الحياة الدنيا، لا غير.
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا للنَّاس في هَذَا الْقُرْآن من كُلّ مَثَلٍ} أي: من كل وصف يوضح الحق ويزيل اللبس، أو من كل دليل على الأمور الأخروية، والحق يجري مجرى المثل في الظهور: {وَلَئن جئْتَهُم بآيَةٍ} أي: مما اقترحوه أو غيرها: {لَيَقُولَنَّ الَّذينَ كَفَرُوا إنْ أَنتُمْ إلَّا مُبْطلُونَ} أي: لا يؤمنون بها، ويعتقدون أنها سحر وباطل: {كَذَلكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوب الَّذينَ لَا يَعْلَمُونَ} أي: لا يطلبون العلم ولا يتحرون الحق، بل يصرون على خرافات اعتقدوها وترهات ابتدعوها؛ فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق، ويوجب تكذيب المحق. قاله أبو السعود.
{فَاصْبرْ} أي: على ما تشاهد منهم، من الأقوال الباطلة، والأفعال السيئة: {إنَّ وَعْدَ اللَّه حَقٌّ} أي: في قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلمَتُنَا لعبَادنَا الْمُرْسَلينَ إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالبُونَ} [الصافات: 171- 173]، {وَلَا يَسْتَخفَّنَّكَ} أي: لا يحملنك على الخفة والقلق: {الَّذينَ لَا يُوقنُونَ} أي: بما تتلو عليهم من الآيات البينة، بتكذيبهم إياها ومكرهم فيها؛ فإنه تعالى منجز لك ما وعدك من نصرك عليهم، وجعله العاقبة لك، ولمن اعتصم بما جئت به من المؤمنين. اهـ.

.قال سيد قطب:

{وَإذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنيبينَ إلَيْه ثُمَّ إذَا أَذَاقَهُمْ منْهُ رَحْمَةً إذَا فَريقٌ منْهُمْ برَبّهمْ يُشْركُونَ (33)}.
يمضي هذا الشوط من السورة في مجالها الأصيل. المجال الكوني العام الذي ترتبط به أقدار الناس وأقدار الأحداث؛ والذي تتناسق فيه سنن الكون وسنن الدين القيم بلا تعارض ولا اصطدام.
وفي هذا الشوط يرسم صورة لتقلب الأهواء البشرية أمام ثبات السنن؛ ووهن عقائد الشرك أمام قوة الدين القيم. ويصور نفوس البشر في السراء والضراء وعند قبض الرزق وبسطه، وهي تضطرب في تقديراتها وتصوراتها ما لم تستند إلى ميزان الله الذي لا يضطرب أبدًا، وما لم ترجع إلى قدر الله الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. وبمناسبة الرزق يوجههم إلى الطريقة التي تنمي المال وتزكيه. الطريقة المتفقة مع النهج القيم والطريق الواصل. ويردهم بهذا إلى معرفة الخالق الرازق الذي يميت ويحيي. أما الشركاء الذين يتخذونهم من دون الله فماذا يفعلون؟ وينبههم إلى الفساد الذي تنشئه عقيدة الشرك في كل مكان. كما يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى الاستقامة على منهجهم القيم. قبل أن يأتي اليوم الذي لا عمل فيه ولا كسب، ولكن حساب وجزاء عما كانوا يعملون. وفي معرض الحديث عن رزق الله يوجه قلوبهم إلى أنماط من هذا الرزق. منها ما يتعلق بحياتهم المادية كالماء النازل من السماء الذي يحيي الأرض بعد موتها. وتجري الفلك فيه بأمره. ومنها تلك الآيات البينات التي تنزل على الرسول لإحياء موات القلوب والنفوس، ولكنهم لا يهتدون ولا يسمعون. ويطوف بهم في جولة مع أطوار نشأتهم وحياتهم حتى ينتهوا إلى خالقهم، فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون. ويختم هذا الشوط بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهه إلى الصبر حتى يتحقق وعد الله الحق اليقين.
{وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون أم أنزلنا عليهم سلطانًا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصيبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}.
إنها صورة للنفس البشرية التي لا تستمد من قيمة ثابتة، ولا تسير على نهج واضح. صورة لها وهي تتأرجح بين الانفعالات الطارئة، والتصورات العارضة، والاندفاعات مع الأحداث والتيارات. فعند مس الضر يذكر الناس ربهم، ويلجأون إلى القوة التي لا عاصم إلا إياها، ولا نجاة إلا بالإنابة إليها. حتى إذا انكشفت الغمة، وانفرجت الشدة، وأذاقهم الله رحمة منه: {إذا فريق منهم بربهم يشركون}. وهو الفريق الذي لا يستند إلى عقيدة صحيحة تهديه إلى نهج مستقيم.
ذلك أن الرخاء يرفع عنهم الاضطرار الذي ألجأهم إلى الله؛ وينسيهم الشدة التي ردتهم إليه. فيقودهم هذا إلى الكفر بما آتاهم الله من الهدى وما آتاهم من الرحمة، بدلًا من الشكر والاستقامة على الإنابة.
وهنا يعاجل هذا الفريق بالتهديد في أشخاص المشركين الذين كانوا يواجهون الرسالة المحمدية، فيوجه إليهم الخطاب، ويحدد أنهم من هذا الفريق الذي يعنيه:
{فتمتعوا فسوف تعلمون}.
وهو تهديد ملفوف، هائل مخيف. وإن الإنسان ليخاف من تهديد حاكم أو رئيس فكيف وهذا التهديد من فاطر هذا الكون الهائل، الذي أنشأه كله بقولة: كن! {فتمتعوا فسوف تعلمون}!
وبعد هذه المعاجلة بالتهديد الرعيب يعود فيسأل في استنكار عن سندهم في هذا الشرك الذي يجازون به نعمة الله ورحمته؛ وهذا الكفر الذي ينتهون إليه:
{أم أنزلنا عليهم سلطانًا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون}.
فإنه لا ينبغي لبشر أن يتلقى شيئًا في أمر عقيدته إلا من الله. فهل أنزلنا عليهم حجة ذات قوة وسلطان تشهد بهذا الشرك الذي يتخذونه؟ وهو سؤال استنكاري تهكمي، يكشف عن تهافت عقيدة الشرك، التي لا تستند إلى حجة ولا تقوم على دليل. ثم هو سؤال تقريري من جانب آخر، يقرر أنه لا عقيدة إلا ما يتنزل من عند الله. وما يأتي بسلطان من عنده. وإلا فهو واهن ضعيف.
ثم يعرض صفحة أخرى من صفحات النفس البشرية في الفرح بالرحمة فرح الخفة والاغترار؛ والقنوط من الشدة واليأس من رحمة الله:
{وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون}.
وهي كذلك صورة للنفس التي لا ترتبط بخط ثابت تقيس إليه أمرها في جميع الأحوال؛ وميزان دقيق لا يضطرب مع التقلبات. والناس هنا مقصود بهم أولئك الذين لا يرتبطون بذلك الخط ولا يزنون بهذا الميزان. فهم يفرحون بالرحمة فرح البطر الذي ينسيهم مصدرها وحكمتها، فيطيرون بها، ويستغرقون فيها، ولا يشكرون المنعم، ولا يستيقظون إلى ما في النعمة من امتحان وابتلاء. حتى إذا شاءت إرادة الله أن تأخذهم بعملهم فتذيقهم حالة {سيئة} عموا كذلك عن حكمة الله في الابتلاء بالشدة، وفقدوا كل رجاء في أن يكشف الله عنهم الغمة؛ وقنطوا من رحمته ويئسوا من فرجه. وذلك شأن القلوب المنقطعة عن الله، التي لا تدرك سننه ولا تعرف حكمته. أولئك الذين لا يعلمون. يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا!
ويعقب على هذه الصورة بسؤال استنكاري يعجب فيه من أمرهم، وقصر نظرهم وعمى بصيرتهم. فالأمر في السراء والضراء يتبع قانونًا ثابتًا، ويرجع إلى مشيئة الله سبحانه، فهو الذي ينعم بالرحمة، ويبتلي بالشدة؛ ويبسط الرزق ويضيقه وفق سنته، وبمقتضى حكمته. وهذا ما يقع كل آن، ولكنهم هم لا يبصرون:
{أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر}.
فلا داعي للفرح والبطر عند البسط، ولا لليأس والقنوط عند القبض؛ فإنما هي أحوال تتعاور الناس وفق حكمة الله، وفيها للقلب المؤمن دلالة على أن مرد الأمر كله لله، ودلالة على اطراد السنة، وثبات النظام، رغم تقلب الأحوال:
{إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}.
وإذا كان الله هو الذي يبسط الرزق ويقبضه؛ وهو الذي يعطي ويمنع وفق مشيئته؛ فهو يبين للناس الطريق الذي تربو أموالهم فيه وتربح. لا كما يظنون هم، بل كما يهديهم الله:
{فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون}.
وما دام المال مال الله، أعطاه رزقًا لبعض عباده، فالله صاحب المال الأول قد قرر قسمًا منه لفئات من عباده، يؤديها إليهم من يضع يده على ذلك المال. ومن ثم سماها حقًا. ويذكر هنا من هذه الفئات {ذا القربى والمسكين وابن السبيل}. ولم تكن الزكاة بعد قد حددت ولا مستحقوها قد حصروا. ولكن المبدأ كان قد تقرر. مبدأ أن المال مال الله، بما أنه هو الرازق به، وأن لفئات من المحتاجين حقًا فيه مقررًا لهم من صاحب المال الحقيقي، يصل إليهم عن طريق واضع اليد على هذا المال. وهذا هو أساس النظرية الإسلامية في المال. وإلى هذا الأساس ترجع جميع التفريعات في النظرية الاقتصادية للإسلام. فما دام المال مال الله، فهو خاضع إذن لكل ما يقرره الله بشأنه بوصفه المالك الأول، سواء في طريقة تملكه أو في طريقة تنميته، أو في طريقة إنفاقه. وليس واضع اليد حرًا في أن يفعل به ما يشاء.